فصل: تفسير الآيات (14- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (14- 18):

قوله تعالى: {وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون فمنْ أسْلم فأُولئِك تحرّوْا رشدا (14) وأمّا الْقاسِطُون فكانُوا لِجهنّم حطبا (15) وألّوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ لأسْقيْناهُمْ ماء غدقا (16) لِنفْتِنهُمْ فِيهِ ومنْ يُعْرِضْ عنْ ذِكْرِ ربِّهِ يسْلُكْهُ عذابا صعدا (17) وأنّ الْمساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا (18)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا ظاهرا في أنهم أسلموا كلهم، قالوا نافين لهذا الظاهر مؤكدين لأن إسلامهم مع شديد نفرتهم لا يكاد يصدق: {وأنا منا} أي أيها الجن {المسلمون} أي المخلصون في صفة الإسلام للهادي فأسلموه قيادهم فهم عريقون في ذلك مقسطون مستقيمون، فلا يفارقون الدليل فهم على الصراط السوي العدل الرضي، ومنا الجافون الكافرون {ومنا القاسطون} وهم الجائرون عن المنهج الأقوم الساقطون في المهامه المجاهل التي ليس بها معلم، فهم بربهم كافرون، ومنا المقسطون، يقال: قسط- إذا جار جورا، أسقطه عن رتبة الإنسان إلى رتبة أدنى الحيوان، وأقسط- إذا أزال الجور فعدل، فالآية من الاحتباك: {المسلمون} يدل على الكافرين، و{القاسطون} يدل على المقسطين.
ولما كانوا قد علموا مما سمعوا من القرآن أنه لابد من البعث للجزاء، سببوا عن هذه القسمة قولهم: {فمن أسلم} أي أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه للدليل من الجن ومن غيرهم.
ولما كان في مقام الترغيب في الحق، ربط بفعلهم ذلك تسبيبا عنه قوله مدحا لهم: {فأولئك} أي العالو الرتبة {تحروا} أي توخوا وقصدوا مجتهدين {رشدا} أي صوابا عظيما وسدادا، كان- لما عندهم من النقائص- شاردا عنهم فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلا، من قولهم: الحرا- بالقصر: أفحوص القطاة يأوي إليه الظبي، والناحية والموضع، وما أحراه بكذا: ما أوجبه له، وبالحرا أن يكون كذا أي خليق كونه، وفلان حري بكذا أي خليق، وقد يجيء بالحر- من غير ياء، يراد به بالجهد، وتحريت الشيء: قصدت ناحيته، فكان لهم ذلك إلى الجنة سببا، ومن قسط فأولئك ضنوا فنالوا غيا وشططا.
ولما عرفوا بالأمن الاعتصام بطاعة الله، نبهوا على خطر التعرض لبطشه فقالوا: {وأما القاسطون} أي العريقون في صفة الجور عن الصواب من الجن وغيرهم فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحروا لها فضلوا فأبعدوا عن المنهج فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها: {فكانوا} بجبلاتهم {لجهنم} أي النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة {حطبا} توقد بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء، وهم أحياء ما دامت تتقد لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون، فالآية من الاحتباك، وهو منطوق لما أوجبه من السياق لا مفهوم: ذكر التحري أولا دليلا على تركه ثانيا وذكر جهنم ثانيا دليلا على حذف الجنة أولا، وسر ذلك أنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر، وطووا ما يجب العلم به لأن الله تعالى لا يضيع لأحد أجرا بل لا يقتصر على ما يقابل الحسنة في العرف بل لابد أن يزيد عليها تسعة أضعافها وعنده المزيد ولا حول ولا قوة لنا إلا به سبحانه وتعالى.
ولما رغب ورهب سبحانه على ألسنة الجن بما هداهم له ونور قلوبهم به، وكانت الآية السالفة آخر ما حكى عنهم، وكان التقدير: أوحي إليّ أن القاسطين من قومي وغيرهم لو آمنوا فعل بهم من الخير ما فعل بمؤمني الجني حين آمنوا، فأغناهم الله في الدنيا بحلاله عن حرامه من غير كلفة فكسا لهم كل عظم لقوه لحما أوفر ما كان، وأعاد لهم كل روث رأوه أحسن ما كان ببركة هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم {وأن} أي وأوحي إليّ أن الشأن العظيم {لو استقاموا} أي طلب القاسطون من الخلق كلهم الجن والإنس القوم وأوجدوه، كائنين {على الطريقة} أي التي لا طريقة غيرها وهي التي فهمها الجن من القرآن من الإسلام والإقساط المؤدية إلى الفلاح في الدارين.
ولما كان الماء أصل كل خير كما قال تعالى في قصة نوح عليه الصلاة والسلام {يرسل السماء عليكم مدرارا} [نوح: 11] وكان منه كل شيء حيّ وكان عزيزا عند العرب، قال معظما له بالالتفات إلى مظهر العظمة: {لأسقيناهم} أي جعلنا لهم بما عندنا من العظمة {ماء غدقا} أي كثيرا عظيما عظيم النفع نكثر به الرزق ونزين به الأرض ونرغد به العيش.
ولما كانت نعمه فضلا منه وليس مستحقة عليه بعبادة ولا غيرها، قال تعالى معرفا غايتها استحقاق الثواب أو العقاب على ما كتبه على نفسه سبحانه ولا يبدل القول لديه وأن جميع ما يعامل به عباده سبحانه وتعالى من نفع وضر إنما هو فتنة لهم يستخرج ما جبلوا عليه من حسن أو قبيح: {لنفتنهم} أي نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة {فيه} أي في ذلك الماء الذي تكون عنه أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر، قال الرازي: وهذا بعد ما حبس عنهم المطر سنين- انتهى.
وقال غيره: قال عمر رضي الله تعالى عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة.
وقال الحسن وغيره: كانوا سامعين مطيعين ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه- يعني عثمان رضي الله تعالى عنه ويجوز أن يكون مستعارا للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للفنوس كالنفوس للأبدان وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم الرذائل في الدنيا والنقم في الآخرة، من فتنت الذهب- إذا خلصته من غشه.
ولما كان التقدير: فمن يقبل على ذكر ربه ننعمه في دار السلام أبدا، عطف عليه قوله: {ومن يعرض} أي إعراضا مستمرا إلى الموت {عن ذكر ربه} أي مجاوزا عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره {نسلكه} أي ندخله {عذابا} يكون مطرفا له كالخيط يكون في ثقب الخرزة في غاية الضيق {صعدا} أي شاقا شديدا يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقا، فإن الإعراض كلما تمادى زمانه كان أقوى مما كان.
ولما كان التقدير: لأنه أوحى إليّ أن الأمر على ما تتعارفونه بينكم من أن من خدم غير سيده عذبه أبدا، عطف عليه قوله مبينا لسيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يجب لهم من الكمال الذي يكون بقوتي العلم والعمل، والتكميل الذي يكون بهما مع قوة البيان، ومن لم يكن كاملا لم يتصور منه تكميل ليكون له ولد قلب كما أن من لم يكن بالغا لم يتحقق منه ولد صلب، ومبينا لما يجوز عليهم وما يستحيل منهم وما لله تعالى من العناية بشأنهم: {وأن} أي وأوحي إليّ أن {المساجد} أي مواضع السجود من العالم الآفاقي من الأرض ومن العالم النفسي من الجسد- كما قاله سعيد بن جبير وطلق بن حبيب {لله} أي مختصة بالملك الأعظم {فلا تدعوا} أي بسبب ذلك أيها المخلوقون على وجه العادة {مع الله} أي الذي له جميع العظمة {أحدا} لأن من تعبد لغير سيده في ملك سيده الذي هو العالم الآفاقي وبآلة سيده الذي هو العالم النفسي كان أشد الناس لوما وعقوبة فكيف يليق بكم أن يخلق لكم وجها ويدين ورجلين وأرضا تنتفعون بها وسماء تتم فنعها فتسجدون بالأعضاء التي أوجدها لكم في الأرض التي أمكنكم من الانتفاع بها تحت السماء التي أتم منافعها بها لغيره فتكونون قد صرفتم نعمة السيد التي يجب شكره عليها لغيره أيفعل هذا عاقل؟
قال البغوي: فإن جعلت المساجد مواضع الصلاة فواحدها بكسر الجيم، وإن جعلتها الأعضاء فواحدها بفتح الجيم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الثالث عشر: قوله تعالى: {وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون فمنْ أسْلم فأُولئِك تحرّوْا رشدا (14)}
القاسط الجائر، والمقسط العادل، وذكرنا معنى قسط وأقسط في أول سورة النساء، فالقاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق، وعن سعيد بن جبير: أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول في؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا، وتلا لهم قوله: {وأمّا القاسطون} [الجن: 15] وقوله: {ثْمّ الذين كفرُواْ بِربّهِمْ يعْدِلُون} [الأنعام: 1] {تحرّوْاْ رشدا} أي قصدوا طريق الحق، قال أبو عبيدة: تحروا توخوا، قال المبرد: أصل التحري من قولهم: ذلك أحرى، أي أحق وأقرب، وبالحري أن تفعل كذا، أي يجب عليك.
ثم إن الجن ذموا الكافرين فقالوا:
{وأمّا الْقاسِطُون فكانُوا لِجهنّم حطبا (15)}
وفيه سؤالان:
الأول: لم ذكر عقاب القاسطين ولمْ يذكر ثواب المسلمين؟ الجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين وهو قوله تعالى: {تحرّوْاْ رشدا} [الجن: 14] أي توخوا رشدا عظيما لا يبلغ كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
السؤال الثاني: الجن مخلوقين من النار، فكيف يكونون حطبا للنار؟ الجواب: أنهم وإن خلقوا من النار، لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحما ودما هكذا، قيل: وهاهنا آخر كلام الحسن.
{وألّوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ لأسْقيْناهُمْ ماء غدقا (16) لِنفْتِنهُمْ فِيهِ ومنْ يُعْرِضْ عنْ ذِكْرِ ربِّهِ يسْلُكْهُ عذابا صعدا (17)}
هذا من جملة الموحى إليه والتقدير: قل أوحي إليّ أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليّه، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
(أن) مخففة من الثقيلة والمعنى: وأوحي إليّ أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا.
قال الواحدي: وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل ولا السين في قوله: {أن لا يرْجِعُ إِليْهِمْ قولا} [طه: 89] و{علِم أن سيكُونُ} [المزمل: 20].
المسألة الثانية:
الضمير في قوله: {استقاموا} إلى من يرجع؟ فيه قولان: قال بعضهم: إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا.
وقال آخرون: بل المراد الإنس، واحتجوا عليه بوجهين الأول: أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني: أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوما جرى مجرى قوله: {إِنّا أنزلناه في ليْلةِ القدر} [القدر: 1] وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه.
وأقول: يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة.
المسألة الثالثة:
الغدق بفتح الدال وكسرها: الماء الكثير، وقرئ بهما يقال: غدقت العين بالكسر فهي غدقة، وروضة مغدقة أي كثيرة الماء، ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء، وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغيث والمطر، والثاني: وهو قول أبي مسلم: أنه إشارة إلى الجنة كما قال: {جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار} [البقرة: 25] وثالثها: أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها، لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا.
المسألة الرابعة:
إن قلنا: الضمير في قوله: {استقاموا} راجع إلى الجن كان في الآية قولان: أحدهما: لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، ونظيره قوله تعالى: {ولوْ أنّ أهْل الكتاب ءامنُواْ واتقوا} [المائدة: 65] وقوله: {ولوْ أنّهُمْ أقامُواْ التوراة والإنجيل وما أُنزِل إِليهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكلُواْ} [المائدة: 66] وقوله: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ} [الطلاق: 2، 3] وقوله: {فقُلْتُ استغفروا ربّكُمْ} إلى قوله: {ويُمْدِدْكُمْ بأموال وبنِين} [نوح: 12] وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع، فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني: أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق، ونظيره قوله تعالى: {ولوْلا أن يكُون الناس أُمّة واحدة لّجعلْنا لِمن يكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفا مّن فِضّةٍ}
[الزخرف: 33] واختار الزجاج الوجه الأول قال: لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية {لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} فهو كقوله: {إِنّما نُمْلِى لهُمْ لِيزْدادُواْ إِثْما} [آل عمران: 178] ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضا ابتلاء واختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا، وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان، وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس، فالوجهان عائدان فيه بعينه وهاهنا يكون إجراء قوله: {لأسقيناهم مّاء غدقا} على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل.
المسألة الخامسة:
احتج أصحابنا بقوله: {لِنفْتِنهُمْ} على أنه تعالى يضل عباده، والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال: فتنت الذهب بالنار لاخلق الضلال، واستدلت المعتزلة باللام في قوله: {لِنفْتِنهُمْ} على أنه تعالى إنما يفعل لغرض، وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله.
وقوله تعالى: {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربّهِ} أي عن عبادته أو عن موعظته، أو عن وحيه.
{يسلكه} وقرئ بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذابا، والأصل نسلكه في عذاب كقوله: {ما سلككُمْ في سقر} [المدثر: 42] إلا أن هذه العبارة أيضا مستقيمة لوجهين الأول: أن يكون التقدير نسلكه في عذاب، ثم حذف الجار وأوصل الفعل، كقوله: {واختار موسى قوْمهُ} [الأعراف: 155] والثاني: أن يكون معنى نسلكه أي ندخله، يقال: سلكه وأسلكه، والصعد مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب لأنه (يصعد فوق طاقة) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح، يريد ما شق علي ولا غلبني.
وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صعدا جبل في جهنم، وهو صخرة ملساء، فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها، ثم يكلف الصعود مرة أخرى، فهذا دأبه أبدا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} [المدثر: 17].
النوع الثالث: من جملة الموحى قوله تعالى: {وأنّ الْمساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا (18)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
التقدير: قل أوحي إليّ أن المساجد لله، ومذهب الخليل أن التقدير: ولأن المساجد لله فلا تدعوا، فعلى هذا اللام متعلقة، (بلا تدعوا)، أي فلا تدعوا مع الله أحدا في المساجد لأنها لله خاصة، ونظيره قوله: {وإِنّ هذه أُمّتُكُمْ} على معنى، ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، أي لأجل هذا المعنى فاعبدون.
المسألة الثانية:
اختلفوا في المساجد على وجوه:
أحدها: وهو قول الأكثرين: أنها المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر الله المسلمين بالإخلاص والتوحيد.
وثانيها: قال الحسن: أراد بالمساجد البقاع كلها قال عليه الصلاة والسلام: «جعلت لي الأرض مسجدا» كأنه تعالى قال: الأرض كلها مخلوقة لله تعالى فلا تسجدوا عليها لغير خالقها.
وثالثها: روي عن الحسن أيضا أنه قال: المساجد هي الصلوات فالمساجد على هذا القول جمع مسجد بفتح الجيم والمسجد على هذا القول مصدر بمعنى السجود.
ورابعها: قال سعيد بن جبير: المساجد الأعضاء التي يسجد العبد عليها وهي سبعة القدمان والركبتان واليدان والوجه، وهذا القول اختيار ابن الأنباري، قال: لأن هذه الأعضاء هي التي يقع السجود عليها وهي مخلوقة لله تعالى، فلا ينبغي أن يسجد العاقل عليها لغير الله تعالى، وعلى هذا القول معنى المساجد مواضع السجود من الجسد واحدها مسجد بفتح الجيم.
وخامسها: قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: يريد بالمساجد مكة بجميع ما فيها من المساجد، وذلك لأن مكة قبلة الدنيا وكل أحد يسجد إليها، قال الواحدي: وواحد المساجد على الأقوال كلها مسجد بفتح الجيم إلا على قول من يقول: إنها المواضع التي بنيت للصلاة فإن واحدها بكسر الجيم لأن المواضع والمصادر كلها من هذا الباب بفتح العين إلا في أحرف معدودة وهي: المسجد والمطلع والمنسك والمسكن والمنبت والمفرق والمسقط والمجزر والمحشر والمشرق والمغرب، وقد جاء في بعضها الفتح وهو المنسك والمسكن والمفرق والمطلع، وهو جائز في كلها وإن لم يسمع.
المسألة الثالثة:
قال الحسن: من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله لأن قوله: {فلا تدْعُواْ مع الله أحدا} في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه. اهـ.